في هذه الدواوير الغارقة في العزلة بقاع “المغرب العميق”، تتردد كلمة “أبريد”، وتعني الطريق بالأمازيغية، على ألسنة الصغار والكبار، ذلك أنها أكبر سبب لعزلتهم، وإن كانت هناك أسباب أخرى ينتظرون رفْعها، ليتمتعوا بأبسط شروط العيش الكريم.
معاناة مريرة
إذا كنت قادما من مدينة بني ملال في اتجاه الدواوير المذكورة، يتعيّن عليك أن تسلك طريقا غير معبدة صالحة لمرور العربات على مسافة سبعة كيلومترات، لكن عند نهاية الكيلومتر السابع في مكان يسمى “إغرغر”، يتعين عليك أن تستعين بقدميْك أو تركب دابة لتصل إلى مقصدك.
هنا يشمّر الناس عن جلاليبهم ويجاهدون أنفسهم من أجل قطع ما تبقى من الطريق نحو دواويرهم، وطولُها ستّة كيلومترات كاملة، وسط مسْلك جبلي وعِر حفرته حوافر الدواب وأقدام العابرين على مرِّ عقود طويلة من الزمن.
يقول محمد أحد أبناء المنطقة: “نحن لا نطلب من المسؤولين أن يُطعمونا من الجوع، لا نريد منهم أن يأتونا بالخبز، نحن لنا عليهم حقوق عليهم أن يوفوا بها، وفي مقدمتها الطريق”، وقبل أن يُتمم هتف رجال كانوا واقفين بجانبه: “أبْريد.. أبْريد”.
الأهمية الكبرى التي يمثلها الربط بالطريق بالنسبة لسكان دواوير هذه المنطقة المدفونة بين الجبال، تنبع من المعاناة الشديدة التي يكابدونها، سواء حين يهمّون بنقل ما يقتنونه من المدينة إلى بيوتهم، أو حتى عندما يذهبون إلى السوق الأسبوعي.
وحسب شهادات مواطنين في عين المكان، فإنّ الذهاب إلى السوق الأسبوعي بالنسبة إليهم مرادف للشقاء، ذلك أنهم يضطرون، عشية السوق، إلى التوجه إلى أقرب قرية منه، وهناك يبيتون، ثم يستأنفون رحلتهم في صباح اليوم الموالي. ويتكرر السيناريو نفسه في رحلة العودة، أي أن اقتناء حاجياتهم من السوق الأسبوعي يكلّفهم زمَنا يقدر بنحو يوميْن ذهابا وإيابا.
يتدفق سرْد تفاصيل هذه المعاناة على ألسنة الناس هنا وسط آمال بأن يصل أنينهم إلى مَن يعنيهم الأمر لإخراجهم من عزلتهم، وتخفيف آلامهم التي تشتدّ حينَ يهمّون بنقل مريض أو امرأة حامل إلى المدينة.
“عندما يمَرض أحد هنا لا نملك وسيلة أخرى لنقله إلى المستشفى في بني ملال إلا بحمله على متن دابة أو في نعش خشبي على أكفّنا لساعات طوال لكي نصل إلى الطريق المعبّدة. وقبل مدّة كنا بصدد نقل سيدة حامل إلى المستشفى فماتت في الطريق”، يقول أحد رجال المنطقة.
خمسة حقوق
لا يعاني السكان المعزولون في هذه المنطقة من الأطلس فقط من غياب طريق تفكّ عنهم العزلة، بل يفتقرون كذلك إلى أبسط المقومات الأساسية للحياة، يحصرها إبراهيم، في “خمسة حقوق”، مضيفا بحرقة “في هذه المنطقة لا نتوفر على شيء، ونقول للمسؤولين إننا نريد الطريق والمستشفى والمدرسة والماء والكهرباء”.
وبخصوص مشكل غياب الماء، يقول إبراهيم إن سكان المنطقة يقطعون مسافات طويلة، تصل بالنسبة لبعض الدواوير إلى ستة كيلومترات، من أجل الوصول إلى مَنبع مائي يوجد في “تيزي ن علي”، مضيفا “نملأ قنينات المياه قطرة قطرة نظرا للإقبال الكبير على ذلك المنبع المائي”.
وفي الوقت الذي يتحدث المسؤولون في المركز عن تعميم التعليم، فإنّ أطفال إبراهيم، على غرار باقي أقرانهم في المنطقة، يعانون من عدم تمكينهم من حقهم في التعليم كاملا، ذلك أنهم يدرسون في مدرسة للتربية غير النظامية، حسب آبائهم، لكنهم يروْن أن هذا التعليم غيرُ مُجد، لسوء الظروف التي يتم فيها، ذلك أنّ المدرّسين الذين تكلفهم الجمعية بمهمة تدريس الأطفال لا يجدون حتى الماء للاستحمام.
يقول إبراهيم: “حينَ يُنهي أطفالنا التعليم الابتدائي ويذهبون إلى الإعدادية في بني ملال، غالبا ما لا يستطيعون مسايرة الدراسة، أو يرسبون، لأنهم لا يفهمون حتى الدارجة، وبالتالي يعجزون عن استيعاب الدروس، لأنهم عاشوا هنا في التهميش، ولا يعرفون شيئا عن العالم الخارجي”.
ويُضيف متحدثا عن مشكل غياب الكهرباء “أقسم لك بالله أن أبنائي لم يسبق لهم أن رأوا مصباحا كهربائيا. فهم يراجعون دروسهم على ضوء قنينة الغاز، وإذا انتهت يستعينون بالشموع، أما الطاقة الشمسية فلا نملك مالا لشرائها”.
بالنسبة لإبراهيم، كما هو حال باقي سكان المنطقة، فإنّ السؤال الذي يريدون من المسؤولين أن يُجيبوا عنه هو: “أليست لنا حقوق على هذه الدولة؟”.
اشترك الآن ليصلك كل جديد الأخبار والمواضيع على بريدك
اترك تعليقاً