لا يخفى على أي شخص أن كارثة التغير المناخي التي تلوح في الأفق هي بسبب الاحتراق غير المنظم للوقود الأحفوري، مثل الفحم والنفط والغاز، ولكن المريب في الأمر أنه ومنذ مؤتمر المناخ الأول عام 1995، لم يتم ذكر “الفحم” و “الوقود الأحفوري”، في التقارير النهائية لأي مؤتمر من المؤتمرات التي عُقدت حول اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغيرات المناخية.
بدأت عملية احتراق الوقود الأحفوري مع بداية الثورة الصناعية التي اعتمدت على الفحم في القرن الثامن عشر.
ويقول المحلل السياسي جوناثان جورنال في تقرير لموقع “سينديكيشن بيورو” المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، إن تجاهل مندوبي مؤتمر الأطراف كل سنة للمشكلة الكبرى أو “الفيل في الغرفة” وهي الوقود الأحفوري لم يكن نتاجا لعدم معرفتهم بخطورة الوقود الأحفوري، بل بسبب الضغوط الاجتماعية والاقتصادية العديدة التي شهدتها بلدانهم في مراحل مختلفة من التنمية.
ولنترك الفيل جانبا والذي يرمز لمشكلة الوقود الأحفوري العملاقة والتي يتجاهلها الأطراف، فالحيوان الآخر الذي يمكن استخدامه كرمز واستعارة هو النعامة، والتي كانت حاضرة في كل مؤتمر مناخي على مدى ربع القرن الماضي، وقد كانت نعامة عملاقة، ورأسها مدفون في أعماق الأرض، وأخيرا سمح لتلك النعامة برفع رأسها في مدينة غلاسكو، وإلقاء نظرة سريعة على الواقع المحيط، ولكن حتى في تلك اللحظة، لم تنجح محاولات الإطاحة بعنصر الطاقة المبجل “الفحم” بفضل التدخلات من رعاته الأوفياء، الصين والهند.
وبناء على ذلك، يؤكد جورنال أن ما يحتاجه العالم الآن، أكثر من أي شيء آخر، هو قيادة مقنعة، وهنا يأتي دور الإمارات العربية المتحدة.
وكان أحد أكثر الإعلانات التي لاقت ترحيبا من قمة غلاسكو للمناخ هو أن قمة عام 2023 للمناخ سيتم تنظيمها في الإمارات، وهذه ليست المرة الأولى التي يُعقد فيها مؤتمر الأطراف (قمة المناخ) في الشرق الأوسط، ففي عام 2012 عقدت قمة المناخ في الدوحة، ولكن بعد مضي عقد من الزمان على الساحة المناخية تغير كل شيء تغيرا كبيرا.
تغيرات كبيرة
لم تكن قمة الدوحة عديمة الفائدة، بل كانت إحدى القمم من ضمن سلسلة من القمم الهامة والخالية من الأحداث، والتي مهدت الطريق لاتفاق باريس في عام 2015، وقد كانت المرة الأولى التي توقع فيها البلدان النامية على التزام قانوني لخفض انبعاثاتها.
وكان اتفاق باريس يقضي بخفض مستوى الاحتباس الحراري العالمي إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، ولتحقيق ذلك، يتعين على العالم خفض انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية بأكثر من 26 مليار طن متري كل عام من الآن وحتى عام 2030، والقول بأن إجمالي التعهدات بخفض الانبعاثات التي قطعتها الدول في غلاسكو بما يزيد قليلا عن 6 مليارات طن غير كاف، هو تقليل من ضخامة الفجوة ما بين الطموح والالتزام.
وعليه، فقد حان الوقت لإعطاء الخبز للخباز.
ويقول المحلل السياسي إن منتجي النفط والغاز في العالم هم الذين سيخسرون أكثر من غيرهم اقتصاديا في المعركة الرامية إلى كبح جماح التغيرات المناخية، فهم شأنهم شأن بقية دول العالم، يواجهون التحدي المتمثل في خفض الاستهلاك المحلي للطاقة غير المتجددة. ولكن في الوقت نفسه، يتعين عليهم أيضا العثور على مصادر بديلة للعائدات للتعويض عن انخفاض الطلب على منتجاتهم الأحفورية، وهذا، من باب التناقض المثير للسخرية، هو السبب في أن قلة من الدول وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة هي في وضع أفضل لحشد العالم والابتعاد به عن الوقود الأحفوري، بالرغم من أنها من عمالقة منتجي الوقود الأحفوري.
ويضيف أنه مما لا شك فيه أن العديد من الأصوات سوف تحتج بعد السماح لدولة الأمارات باستضافة قمة المناخ القادمة، بل ويمكن للمنتقدين استخدام تشبيه “إعطاء الثعلب مفتاح حظيرة الدجاج”، وسيتم الاستدلال بتعليقات الدكتور سلطان الجابر، الرئيس التنفيذي لشركة بترول أبوظبي الوطنية، “أدنوك” الذي أدلى بها هذا الأسبوع، حيث قال “إن صناعة النفط والغاز سوف تضطر إلى استثمار أكثر من 600 مليار دولار سنويا… حتى عام 2030… فقط لمواكبة الطلب المتوقع”.
ولكن التعبير عن الانزعاج من تلك التصريحات يعني إساءة فهم طبيعة نظام الطاقة العالمي الذي يمر بتغييرات هائلة.
وقد قال الجابر إن أيا من بلدان العالم لا تستطيع أن “توقف استخدامها للوقود الأحفوري فجأة”، فالعالم يتعافى من وباء فايروس كورونا والطلب على النفط والغاز يتصاعد، ما من شأنه خلق الثروة الأساسية اللازمة لدول الخليج لتكن قادرة على تمويل ودفع عجلة الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة.
دولة رائدة
النسبة للإمارات العربية المتحدة وبلدان مثل المملكة العربية السعودية، فإن الكثير من الأرباح التي تم جنيها من المصادر الطبيعية تمت إعادة استثمارها مباشرة في البحث والتطوير الذي من شأنه إنقاذ كوكبنا في نهاية المطاف.
وتعمل الإمارات العربية المتحدة جاهدة على كبح استهلاكها المحلي للوقود الأحفوري، وفي الشهر الماضي أعلنت الإمارات عن عزمها الوصول إلى مستوى الحياد الكربوني بحلول عام 2050، وهو هدف طموح، يضعها على قدم المساواة مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
كيف ذلك؟ من الواضح أن النفط لم يكن النعمة الاقتصادية الوحيدة التي منحتها السماء للدول المنتجة للوقود الأحفوري في الشرق الأوسط.
فضوء الشمس هو المورد الذي لا ينضب، وهو متوفر في الخليج على مدار السنة، وتتصدر الإمارات العربية المتحدة بالفعل هذا المجال من خلال مشروع محطة شمس للطاقة الشمسية، الذي كان أكبر مشروع للطاقة المتجددة في الشرق الأوسط عندما تم إطلاقه عام 2013.
ولدى الإمارات تاريخ عريق لمشاريع الطاقة النظيفة متمثل في مدينة مصدر في أبوظبي في عام 2006، وهي تجربة معيشية رائدة في العالم في مجال الاستدامة وفضاء رحب للتكنولوجيا الخضراء المبتكرة.
وقد كانت دولة الإمارات من الدول الرائدة والمبادرة في هذ المجال، حيث تم اختيار أبوظبي في عام 2009 لتكون مقرا للوكالة الدولية للطاقة المتجددة التي أنشأتها الأمم المتحدة “إيرينا”، والتي فتحت أبوابها في مقر مصمم لها، وبالطبع مستدام، في مدينة مصدر في عام 2015.
واليوم تمتلك شركة مصدر مجموعة من مزارع الرياح المنتجة للكهرباء الخالية من الكربون في جميع أنحاء العالم، من مصفوفة لندن التوربينة 175 في المملكة المتحدة إلى مشروع ظفار للرياح في عمان. وإذا كانت استضافة مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة “إيرينا” بمثابة بيان حسن نوايا، فإن إعلان الإمارات العربية المتحدة في عام 2008 عن تطوير برنامج للطاقة النووية كان بمثابة بيان ثوري، حيث افتتحت المرحلة الأولى من محطة بركة للطاقة النووية في أغسطس العام الماضي، وفي نهاية المطاف سوف تولد المحطة أكثر من ربع الطاقة الكهربائية في الإمارات، أي ما يعادل 21 مليون طن من انبعاثات غازات الدفيئة كل عام.
وفي الوقت نفسه، تستثمر الإمارات العربية المتحدة استثمارا كبيرا في التكنولوجيات اللازمة للتخفيف من آثار النفط والغاز على المناخ، سواء من خلال خفض كثافة الكربون أثناء إنتاج هذا الوقود أو من خلال تطوير التكنولوجيات اللازمة لامتصاص آثار حرق ذلك الوقود. وأحد طرق القيام بذلك هو عن طريق احتجاز الكربون، وأين يمكن تخزين الكربون المستخرج بسهولة وفعالية؟ في نفس الأماكن، حيث جاء منه النفط والغاز، في التكوينات الصخرية الممتدة لكيلومترات تحت الأرض في منطقة الخليج. فلا عجب إذا أن الإمارات العربية المتحدة تستثمر بكثافة في العلوم الجديدة لاحتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه.
وحسب المحلل جوناثان جورنال، هذا هو السبب في أن رسالة استضافة الإمارات لقمة المناخ القادمة هي رسالة تبعث على الأمل والتفاؤل.
وستخسر الإمارات العربية المتحدة الكثير مقارنة بالعديد من البلدان الأخرى جراء الانتقال الحتمي إلى الوقود المستدام، ولكن ستكسب أكثر بكثير من خلال رسم ملامح مستقبل سوق الطاقة، وبفضل عائدات النفط والغاز فلدى دولة الإمارات الأموال اللازمة للاستثمار في المستقبل اليوم. ومع قمة المناخ عام 2023، ستتم البرهنة على أن أحد أكبر منتجي الوقود الأحفوري في العالم هو الأفضل لفطم العالم وعلاجه من إدمانه على الوقود الأحفوري.
ويطرح جورنال تساؤلين مهمين في هذا السياق ويجيب عنهما أيضا، “فهل تعد هذه الفكرة متناقضة إلى حد السخرية؟ بالتأكيد. ولكن هل يمكن لها إثارة الإلهام وشحذ الهمم؟ بكل تأكيد”.
اشترك الآن ليصلك كل جديد الأخبار والمواضيع على بريدك
اترك تعليقاً