ليس مهماً ما إذا كانت إيران هي التي خططت عن سابق تصور وتصميم لعراقيل اللحظات الأخيرة، أو إذا كانت العقوبات الأميركية على الوزير السابق علي حسن خليل، مساعد الرئيس نبيه بري، هي التي استفزت الثنائية الشيعية ومن ورائها طهران لشهر سيف ميثاقية مزعومة والتشبث بوزارة المالية. المهم فقط أن ماكرون جاء بكل ثقة يحفر داخل جدران الأزمة اللبنانية مبشراً بتعهد ساسة البلد بفتح صفحة لم يعرفها لبنان قبل ذلك، فإذا به يكتشف ما اكتشفه اللبنانيون منذ سنوات من أنه لا صفحات جديدة طالما أن حزب إيران في لبنان ممسك بمتن الكتاب وأغلقته.

تسلحت باريس في سعيها بضوء أخضر أميركي لم تنفه زيارات الوفيدين، هيل وشنكر، إلى بيروت. سعى ماكرون خلال زيارته للعراق إلى مراعاة حساسية إيران هناك بما يتكامل مع تلك المراعاة في لبنان. غير أن الرجل الذي استند على دعم أصدقاء فرنسا في لبنان، يكتشف أن ذلك الدعم ليس مفتوحاً وأن من يراعي قوة السلاح عليه أن يلحظ أن للأصدقاء أصدقاء في العالم وحسابات في الداخل اللبناني لن تسمح لباريس برعاية انقلاب على دستور لبنان لطالما كان تلويح حزب الله بالمؤتمر الدستوري واجهة له في السنوات الأخيرة.

تملك إيران نفوذا حاسما لدى الثنائية الشيعية. الأمر ينطبق على حزب الله دون شك، وينسحب على حركة أمل وزعيمها نبيه بري الذي لا يمتلك مرجعية أخرى بعد غياب مرجعية دمشق. بالمقابل لا تمتلك فرنسا في لبنان نفوذا يخولها تقديم سمّ سبق للبنانيين تجرعه بعد 7 أيار الشهير وما فرضه اتفاق الدوحة إثر ذلك، كما لا تمتلك رعاية عربية أميركية تمنحها قوة فرض صيغة حكومية تذعن لرغبة حزب الله وأجندة طهران في البلد. وفي لعبة شد الحبل بين طهران وباريس تفقد فرنسا زمام المبادرة وتجد نفسها أمام الأمر الواقع الحقيقي الذي تجاهلته. فأما أن تعترف بفشلها وتغادر ميدانا إيرانيا، أو تراعي مصالحها المستجدة في لبنان داخل مشهد شرق المتوسط وتتواطأ مع إيران بتشييد شراكة ملتبسة.

لن تغادر فرنسا البلد الصغير لبنان الذي تكتشف أنه “كبير” في ما تعنيه تعقيداته إقليميًا ودوليا. ولا تستطيع فرنسا بالمقابل نسج شراكة ممنوعة مع طهران في لبنان. لن تسمح الولايات المتحدة أن يصار إلى إنعاش إيران وحزبها بعلاجات فرنسية، وطبعا لن يحدث أي انفتاح خليجي على لبنان طالما بقيت قواعد الحكم فيه مرتهنة لبدع الهيمنة التي تنتجها ثنائية طهران في بيروت.

تعرف باريس ذلك جيداً، تتواصل مع واشنطن وموسكو والرياض والقاهرة، وهي تسعى من خلال استمرار التواصل مع طهران إلى تذكير الجمهورية الإسلامية أن فرنسا وأوروبا ما زالتا توفران أدوات صدّ لمحاولة إدارة دونالد ترامب تعميم العقوبات الأميركية وجعلها أممية في مجلس الأمن. كما أن باريس ما زالت تقدم لحزب الله منصة تواصل دولية تمحضه بشرعية تخفف من واقع تنامي عدد الدول في العالم التي تعتبره إرهابيا.

والواقع أن فرنسا تتواجه مع عدمية لدى كل أطراف الصراع في لبنان بما يجعل الجميع مستغنيا عن مبادراتها وحنان رئيسها.

أول هؤلاء، اللبنانيون أنفسُهم الذين وصلوا إلى حالة يأس إلى درجة باتوا يعتبرون أن تشكيل حكومة وفق قاعدتي القهر، الفساد والسلاح، أمر أسوء من عدم تشكيل حكومة، خصوصا أن الحكومة التي يريدها حزب الله متوفرة في حكومة حسان دياب المستقيلة، وبالتالي فإن اللبنانيين لن ينصاعوا لابتزاز: إما الحكومة التي يريدها الثنائي أو لا حكومة.

ثاني هؤلاء، هي القوى السياسية ابتداء بما يمثله رؤساء الحكومة السابقين، مرورا بالبطريرك الماروني وقوى سياسية مسيحية (للمفارقة القوات والتيار العوني) ودرزية وأخرى مستقلة، وبعضها كان قريبا من حزب الله، تدعم المداورة بين الحقائب وتؤيد حقيقة أن اتفاق الطائف لم يخصص حقائب لطوائف بعينها، وبالتالي فإن تلك القوى غير مهتمة بالتصفيق لمبادرة فرنسية تشرّع سلوكيات واسقاطات ليست من صلب الدستور، ولن تدعم تشكيل حكومة يفرض السلاح حصصه داخلها.

ثالث هؤلاء، الأطراف الخارجية، العربية والدولية (لا سيما الأميركية)، التي سبق لها أن قاطعت لبنان ماليا بشدة والتزام بسبب أزمتي الفساد والسلاح، وهي لن تغير مقاربتها بمجرد أن أمر واقع هيمنة الحزب بات يحظى بوسم “صنع في فرنسا”.

ليس بالضرورة أن تنهار مبادرة فرنسا وبات على ماكرون أن يدرك أن بيروت تتحدث إلى باريس وتنظر صوب واشنطن. يعبر موقف الثنائية وإيران عن مقاربة ترى أن لا قطاف قبل المواسم التي تلي الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهذا بالمناسبة موقف ينسحب على كافة فرقاء الداخل، المعارضين لحزب، والخارج، المعارضين لإيران، الذين لن يوفروا لطهران وحزبها أمر واقع يُفرض على ساكن البيت الأبيض الجديد في واشنطن.